المقالات // مكافحة رهاب المثلية: بين التجربة الغربية وواقع المجتمعات المثلية

مكافحة رهاب المثلية: بين التجربة الغربية وواقع المجتمعات المثلية

يصادف السابع عشر من أيار اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية (International Day Against Homophobia) والذي يتم إحياؤه للسنة السابعة على التوالي. وقد تم إطلاق هذه المبادرة من ناشط مثلي فرنسي في سنة 2004. جاء اختيار السابع عشر من أيار ليكون اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية في أعقاب إزالة “المثلية الجنسية” من التصنيف العالمي للأمراض (International Classification of Diseases) لمنظمة الصحة العالمية (World Health Organization) في السابع عشر من أيار 1993.

يعني رهاب المثلية أو الهوموفوبيا “الخوف أو الكراهية اللا عقلانية من ”المثلية” و”المثليين”. أصل الكلمة من كلمتي “homosexual” و”فوبيا” (الذعر باليونانية). الكلمة تدل أيضاً على “تمييز” التمييز السلبي ضد المثليين، وعادةً تدل على التزمّت أو التعصّب.

من الملاحظ مؤخرا التزايد في تنظيم فعاليات لإحياء هذا اليوم من قبل مجموعات مثلية حول العالم، بما في ذلك العالم العربي، وبالرغم من أن ظاهرة رهاب المثلية ومخاطرها النفسية والاجتماعية قد تكون واضحة ومتداولة، فهناك تغاضٍ عن أهمية نقاش محدوديتها كإطار للتغيير الاجتماعي وذلك من خلال ما جمعناه من خبرتنا الميدانية في “القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني” على مدى عشر سنوات من التعامل مع المجتمع المثلي بشكل خاص والمجتمع الفلسطيني بشكل عام.

جاءت الحملة العالمية لمكافحة رهاب المثلية نتيجة التطور الطبيعي للحركات المثلية في الغرب، إذ بدأت الحركات المثلية هناك كحركات منظمة في نهاية ستينيات القرن الماضي. فمن رحم الثورات المختلفة في تلك الفترة، من نضال السود في أمريكا والاحتجاج على الحرب على فيتنام خرجت حركات مثلية راديكالية تطالب بتغيير مجتمعي شامل، إلا أن مثلها مثل العديد من حركات تلك الفترة ولظروف لن يسعنا مناقشتها في هذه المقالة تم احتواؤها وتصفيتها وتخفيفها، لتتحول من حركات راديكالية إلى حركات ليبرالية تطالب بتقبل المثليين ضمن المجتمع، وليس بتغيير المجتمع؛ من حركات ترى العلاقات بين النضالات المختلفة، إلى حركات منسلخة عن واقعها، متقوقعة في سياسات الهوية الجنسية، وتعمل على تحسين أوضاع المثليين والمثليات ضمن النظام القائم.

ولتحقيق مآربها، اعتمدت هذه الحركات خلال الأربعين سنة الماضية على العلنية كإستراتيجية وتكتيك، وراحت تعمل على نشر هذه التجربة من خلال مؤسّسات ومبادرات عالمية. وفي هذا السياق ولدت مبادرة اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية، وأصبح التقويم المثلي الغربي يتكوّن من حدثين رئيسيْن ومركزييْن، هما يوم الفخر العالمي واليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية. يدعو الأول فيهما إلى الفخر العلني بالمثلية الجنسية الشخصية، بينما يدعو الآخر إلى تنظيم فعاليات عالمية تدعو لاحترام المثليين والمثليات في أرجاء العالم، إذ يركز اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية على “… أنّ الهوموفوبيا هي السبب للعار ويجب تفكيكها ومحاربتها بشكل علني”. وبإمكاننا أن نرى هنا ازدواجية ما بين الفخر بالمثلية ووصم رهاب المثلية بالعار.
إنّ تسمية مبادرة غربية بقلبها وقالبها بـ “اليوم العالمي” تفرض حتمًا رؤية وتجربة غربية محدودة على باقي الحركات المثلية في العالم. فهذه المبادرة جزء لا يتجزأ من التوجه الذي يعمل على تعميم التجارب المثلية الغربية كأنها التجارب الأصح والوحيدة مع تجاهل خصوصيات المناطق المختلفة وأحقية المجموعات في سائر أنحاء العالم في تحديد طرق نضالها وتطويرها بناءً على تجارب نابعة من السّياق المحلي والتي غالبا ما تختلف كلّ الاختلاف عن التجربة الغربية. إذ تقوم المبادرة على الافتراض بأنّ المجموعات المثلية حول العالم تعتمد على العلنية كإستراتيجية للعمل وبأنّ رهاب المثلية -كما المثلية الجنسية- هما موضوعان ظاهران ومطروحان في الفضاء العام، كما تفترض بأنه بالإمكان تعريف رهاب المثلية وتفكيكها كظاهرة منفردة منعزلة عن باقي ظواهر المجتمع.

كما تقوم هذه المبادرة والتي تعد جزءًا من إطار أوسع لمكافحة رهاب المثلية بتجاهل السياق السياسي والاجتماعي الأوسع لرهاب المثلية، وتلغي من الخطاب المتداول دور ووجود أو حتى تسمية المؤسسات التي هي أساس القمع والتمييز الجنسي والجندري. وإذا أردنا إسقاط هذه المبادرة على سياقنا الفلسطيني العربي فإنها تفشل بربط رهاب المثلية في أساس المشكلة، حقيقة كوننا مجتمعًا لا يتكلم عن الجنسانية بمفهومها العامّ، وكوننا مجتمعًا ذكوريًا أبويًا، ومجتمعًا له نظرة دنيوية للمرأة وكل ما هو أنثوي. إنّ استعمال خطاب الهوموفوبيا يتجاهل كل ما ذكر سابقا كما يتجاهل علاقتنا ووجودنا كمجتمع مثلي كجزء من هذه المؤسسات- فنحن أيضا كمثليين ومثليات “منتوج” لنفس التنشئة الاجتماعية الهترونورماتيف ونعاني رهاب المثلية مثلنا مثل باقي المجتمع. نحن نرى أن استعمال هذا الإطار الفكري والاستراتيجي يؤدي إلى تقليص دورنا كأفراد ومجموعات مثلية كما فيه تبييض لصورة المؤسسة القمعية التي هي أساس ولب التمييز الجنسي والجندري.
خلال السنوات العشر الأخيرة من نشاطنا لاحظنا أنّ الخطاب السائد حول رهاب المثلية -سواء أكان مثليًا يرد على ادعاء هوموفوبي أم “هوموفوب” يحاول محاربة المثلية الجنسية علنا- يصب في نفس الدائرة التي تعزز نفس علاقات القوة والتي تحدد من هو “شاذ” و/أو “متخلف”، وتقسم المجتمع الي فئتين فقط- ذات التقسيم الثنائي القطبية الذي نراه ونحاربه في الخطاب الجنساني الأوسع (ذكر/ أنثى، رجولي/أنثوي). فهنالك “الهوموفوب” إلا وهو المجتمع الفلسطيني “المتخلف” الذي يضطهد المثلية الجنسية والذي يجب أن يشعر بالعار، ومقابلهم نجد المثليين/ات الذين يجب أن يشعروا بالفخر بدعم من حلفاء وأصدقاء من أصحاب الخطاب الحقوقي التقدمي، وهو وللأسف خطاب ليبرالي في معظم الأحيان. لا توجد مساحة في هذا الخطاب القطبي لاحتواء تعابير أكثر تعقيدا واقل علنية والاهم انه يصد أي محاولة لتحليل الهوموفوبيا تحليلا عميقا من اجل تفكيكها.

ولعلّ أسوأ ما في الأمر أنّ هذا الخطاب يمنع المجتمع المثلي والكويري من أن يأخذ دورًا فعّالا في الأجندة الاجتماعية العامّة، بسبب الادعاء أنّ اضطهادنا مختلف وخاصّ وهو جزء من الخطاب الليبرالي الذي يتجاهل تحليل علاقات القوى ويفضل النظر إلى كلّ أمر على حدة، ويتعامل مع قضية المثلية بمعزل عن باقي قضايا المجتمع، غاضًّا الطرف عن حقيقة أنّ النضال الجنسي والجندري -الذي يتضمن المثلي أيضًا- هو جزء لا يتجزأ من أجندة مقاومة أوسع وليست “خاصة” أو “مختلفة”.

أما على المستوى الدولي، فبسبب سطحية خطاب مكافحة الهوموفوبيا، وبسبب غياب تسمية واضحة للمؤسّسات القامعة، ومركزية القطبية بين من يتقبل المثلية (“الجيد”) ومن يرفضها (“السيء”) نرى أشخاصًا أو مجموعات من قلب المؤسسات القامعة يستغلون هذا الخطاب ويركبون موجة “مكافحة رهاب المثلية” من أجل أسباب أخرى هي في معظم الأحيان قمعية أيضًا. إذ أنّ الازدواجية الموجودة في الخطاب تتماشى وخطابهم الليبرالي الذي يقسّم العالم إلى: إما معنا أو ضدنا. فنلاحظ استخدام هذا الخطاب في تبرير الهجوم على العراق من اليمين الأمريكي، ومن ضمنه مؤسّسات تعنى بحقوق المثليين. فهنا يتم استخدام التقاطب بين الولايات المتحدة الأمريكية الغرب وأصدقاء المثليين المتحضرين في مقابلة الشعب والحكومة العراقية (المصابين برهاب المثلية). وهذا يعطي الأمريكان الحق بألا يحترموا إرادة الشعب العراقي أو المجتمع المثلي العراقي وما يراه من طرق نضال، بل فرض حبّ المثلية و”الديموقراطية” عليهم، برزمة جاهزة ومرسلة “من أمريكا مع الحب”. كما تستخدم إسرائيل هذا الخطاب أيضًا في محاولة منها لتبييض جرائمها أمام العالم، وتجريد القضية الفلسطينية من شرعيتها وتقليص الدعم للفلسطينيين. إذ يستخدم هنا التقاطب ما بين إسرائيل المنفتحة والغربية والمتقبلة للمثلية الجنسية، في مقابل المجتمع الفلسطيني المصاب بداء رهاب المثلية، غير المتقبل والمحارب للمثلية بكافة أشكالها. لذا وبما أن إسرائيل هي “الدولة الوحيدة الغربية الصديقة للمثليين” (على وزن “النظام الديموقراطي الوحيد في الشرق الأوسط”) والمحاطة ببحر من “معادي المثلية” فمن حقها خرق حقوق الإنسان ومحاربة هؤلاء “الهمج” المحيطين بها. فنرى جدار الفصل العنصري “يصبغ” باللون الزهري ويوصف على أنه جدار لحماية إسرائيل من هجوم “مُعادي المثلية”، في حين تتعالى الدعوات لوقف دعم الفلسطينيين لأنهم ليسوا من فريق “المتقبلين للمثلية”.

وفي النهاية، نؤكد على محدودية هذا الخطاب، وعلى خطورة استيراده من دون التفكير به وتفكيكه وتحليله. نحن نرى أنّ مكافحة رهاب المثلية على أهميتها لا تكون باستخدام مبدأ القطبية وتقسيم المجتمع إلى صديق للمثليين ومن يعاني رهاب المثلية، ولا بفصل رهاب المثلية عن باقي ظواهر العنف ضد الأقليات المختلفة، والفئات المقموعة. نحن نؤمن بترابط نضالات جميع هذه الفئات، من النضال الفلسطيني إلى النضال النسويّ والنضال الكويري. نحن نؤمن بأنّ تحقيق التغيير المجتمعي لا يكون بعزل أنفسنا عن المجتمع وانتقاده من فقاعة مثلية لا تحتك بباقي المجتمع. بل بالتحام هذه النضالات معا لتفكيك أسس الأنظمة القمعية من أنظمة اقتصادية أبوية سلطوية لا تقبل بالاختلاف أيا كان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حنين معيكي ناشطة كويرية ومديرة جمعية “القوس”؛ سامي شمالي ناشط كويري من القوس)

المقال نشر لأول مره في موقع قديتا

photo
بالرغم من أن ظاهرة رهاب المثلية ومخاطرها النفسية والاجتماعية قد تكون واضحة ومتداولة، فهناك تغاضٍ عن أهمية نقاش محدوديتها كإطار للتغيير الاجتماعي وذلك من خلال ما جمعناه من خبرتنا الميدانية في القوس