مقالات // كل المقالات // لماذا يجب أن نقاطع مسيرة "الفخر" المثليّة في تل أبيب؟

لماذا يجب أن نقاطع مسيرة "الفخر" المثليّة في تل أبيب؟

لقراءة هذا المقال على موقع فسحة اضغطوا هنا

انطلقت مع بداية الشهر الحالي فعاليّات أسبوع الفخر الإسرائيلي، التي تتنوّع ما بين مهرجان تل أبيب للأفلام المثليّة، والحفلات المختلفة، والحدث المركزي المتمثّل بمسيرة الفخر المركزيّة، التي يشارك بها مئات الآلاف من دولة الاحتلال، ومن دول العالم المختلفة، ومن الفلسطينيين أيضًا.

تُنَظَّم فعاليّات أسبوع الفخر في إسرائيل كجزء من الاستراتيجيّة الأوسع، التي أطلق عليها ناشطون فلسطينيّيون ودوليّون بالغسيل الوردي، والتي يقوم الاحتلال من خلالها باستغلال حقوق المثليين وتجاربهم لأهداف ماديّة تتعلّق بجني أرباح طائلة من السياحة المثليّة، وأهداف سياسيّة تهدف إلى تجميل صورته أمام العالم والتغطية على جرائمه المختلفة، وإظهاره كدولة طبيعيّة، بل تقدّميّة ومتحرّرة.

أحاول في هذا المقال الإجابة على سؤال لماذا يجب علينا كفلسطينيّين سواء مثلييّن/ات، متحولين/ات، كويريّين/ات أو لا مقاطعة مسيرة الفخر المثليّة في تل أبيب (وفعاليّات الفخر في مدن أخرى مثل القدس وحيفا)، من خلال نقاش الحجج المختلفة التي قد يستخدمها بعض الفلسطينيين من الأراضي المحتلّة عام 1948 ممن يشاركون في فعاليات أسبوع الفخر، أو حتّى الفلسطينيين الموجودين في بقية أنحاء فلسطين ولا يستطيعون المشاركة، لكن يحملون التوجّهات ذاتها، على افتراض أنّ مدينة تل أبيب توفّر لهم ملاذًا لممارسة حريّتهم، ومسيرة الفخر هي مجرد حدث يؤمن لهم الأمن وحرية التعبير.

تأتي كتابتي لهذه الأفكار نتيجة للكثير من النقاشات والحوارات مع دوائر مثليّة/ كويريّة أو نسويّة فلسطينيّة، وملاحظة الحوارات الدائرة بين أشخاص يقاطعون وآخرين يشاركون. وفيما يلي أستعرض أكثر الحجج والمقولات استخدامًا وسماعًا بخصوص المشاركة في المسيرة وفعاليات الأسبوع بشكل عام.

"شو خصّ السياسة بالموضوع"

في عام 2014، صرّح مستشار بلديّة تل أبيب لشؤون التعدديّة الجنسيّة والجندريّة، يانيف فايتمسن، أنّ كل سائح أجنبي (وفي حالتنا كل مشترك فلسطيني) مثلي يزور اسرائيل سفير يخدم الإنجاز التسويقي الذي جعل تل أبيب من أكثر الدول الصديقة للمثليين في العالم. يشير هذا الاقتباس البسيط إلى المعنى الحقيقي للمشاركة في فعاليّات الفخر الاسرائيليّة، وهو معنى سياسي، وهذا واحدٌ من أمثلة كثيرة يمكن استحضارها في هذا السياق.

مسيرة الفخر الاسرائيليّة هي بمجملها حدث سياسي، ولا يمكن فصلها عن سياسات دولة إسرائيل الأخرى، لما تستثمر فيها وتستغلّها لتحقيق أهداف ومطامع سياسيّة أبعد. تُعدّ مدينة تل أبيب، التي تتلقّى بدورها التمويل من الحكومة الاسرائيليّة، المموّل الرئيسي لفعاليّات أسبوع الفخر في المدينة، أيّ أن المؤسسة التي تموّل حدث الفخر هذا هي ذاتها القائمة على مشاريع التهجير والعنصريّة في يافا والمناطق العربيّة الأخرى. من البديهي أنّ دولة الاحتلال لن تموّل مشاريعًا لا تخدمها أو تصبّ في مصلحتها، ومن هنا تكون المشاركة في فعاليّات الأسبوع، أو رفضها، هو الآخر فعلًا سياسيًا بامتياز، وذلك إمّا بتماهينا مع دولة الاحتلال واستراتيجيّاتها، أو برفضنا ذلك.

"لا فخر مع الاحتلال" نشاطات مناهضة للغسيل الوردي الإسرائيلي حول العالم

متابعة بسيطة لاستراتيجيات الترويج الإسرائيلي في الساحة الدوليّة تكشف لنا عن خبث سلطات الاحتلال في استغلال الموضوع لصالحها، من خلال تصوير نفسها كجنّة عدن أو واحة الديمقراطيّة الوحيدة في المنطقة، ما يلهي عن الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها من جهة، والتي كان أقربها –ولن يكون آخرها المذبحة التي ارتكبتها في قطاع غزّة، ويضعها في مكان النقيض مع المجتمع الفلسطيني "الرجعي والمتخلف"، ما يعطيها الحق في احتلاله والتنكيل به من جهة أخرى، وهو ما يقطع إمكانيّة أي تساؤل حول "خصّ السياسة بالموضوع".

"بقدر أعبّر فيه عن نفسي وأكون مين أنا"

الغاية الأساسيّة للمشاركة في مسيرة الفخر للكثيرين هي التعبير عن أنفسهم وهويّاتهم الجنسيّة والجندريّة بشكل "حرّ" و"طبيعي"، إلّا أنّ التعمّق قليلًا في هذه الفرضيّة يكشف مدى المغالطة بها؛ حيث يتطلّب الانخراط في فعاليّات كهذه، أو في المنظومة الاسرائيليّة بشكلٍ عام التخلّي عن جزء كبير من هويّة الشخص و"طبيعته"، فالتقبّل والاحتواء في سياق دولة احتلال كإسرائيل يكون على أساس مدى قمع الجانب الفلسطينيّ أو العربي لأنفسنا، أو في أفضل الأحوال تشييء أجساد الفلسطينيّين بنزعة استشراقيّة واستعلائيّة، واستغلالهم للترويج "للتعدّديّة الاسرائيليّة" الزائفة. ووفق هذا المنطق لا يعود هناك أيّ مكان "للتعبير عن النفس" أو الهويّات الجنسيّة والجندريّة المختلفة، فلا يمكن فصل هويّاتنا المركّبة وتجاهل التقاطعات بينها، وقمع إحداها على حساب الأخرى.

أمّا بالنسبة لبعض الأشخاص ممّن لا يرون في ذلك قمعًا أو تهميشًا لجوانب أخرى في هويّتهم وشخصيّاتهم، فإن المردود الذي قد يحصلون عليه جراء ذلك هو مردود لحظي وفردي، لا يتخطّ ى البضع ساعات من الحريّة الوهميّة التي تعود على الشخص وحده، ولا يوجد لها أي منفعة أو مصلحة جماعيّة للفلسطينيين –بما فيهم المثليين، بل تعود عليهم بالضرر من خلال المساهمة بتبرئة ذمّة الاحتلال من جرائمه وعنفه.

في حالات عديدة تقوم هذه الحجّة بمجملها على فرضيّة استعماريّة تتمثّل بتذويت النظرة الدونيّة للفلسطيني، والتي تحاول بشتّى الطرق إقناعه أنّ مجتمعه "المتخلّف" و"الهمجي" لن يتقبّله، ولن يتغيّر (ويضع مسيرات الفخر كمعيار أساسي للتغيير وهذا موضوع لمقال اخر)، وبالتالي فالحل الوحيد للمثليين الفلسطينيّين هو الانخراط في المؤسسة والمجتمع الاسرائيلي، فيتحوّل المحتلّ بدل المجتمع الفلسطيني إلى الجهة التي ستتقبّلنا وتحتوينا، مع إنها في الواقع مصدر قمع وعنف آخرين.

"فرصتي أدعم المثليين"

يرى الكثيرون، تحديدًا ممّن يشاركون في مسيرة الفخر "تضامنًا" أو "دعمًا" للمثليّين، أنّ هذه هي فرصتهم الحقيقيّة لدعم أصدقاءهم أو لدعم أشخاص يعيشون تجارب جنسيّة وجندريّة مختلفة، والاعتراض على العنف المجتمعي الذي يمرّ به أصحاب هذه التجارب.

ما يغيب عن بال هذه المجموعة، أنّهم بهذا "الدّعم" يعززون فرصة الاحتلال في قمع شعب بأكمله، بما فيه مثليّين وغيرهم، ما يدعمونه في الحقيقة هو فقط الفعاليّات الاستهلاكيّة والاستعماريّة التي تهدف للسيطرة على الحيّز الفلسطيني بأكمله ونزع كل ما يمكن أن يكون فلسطيني منه.

لذلك التساؤل حول دعم المثليين في حالتنا الفلسطينيّة يكون بمناهضة المباني الاجتماعيّة الأبويّة والذكوريّة بشتّى أشكالها، بما فيها منظومة الاستعمار، وبمساندة المجموعات المثليّة أو الحراكات النسويّة الفلسطينيّة، التي لا تعزل قضايا القمع عن بعضها البعض والمناهضة لكلّ أشكال العنف، والتي تعمل حول فلسطين مع مختلف فئات الشّعب الفلسطيني. لهذا لا نرى في الاشتراك في مسيرات الفخر الاسرائيليّة أي محاولة حقيقية ما عدى المعنى الرمزي لتحدي المباني الاجتماعيّة القامعة داخل مجتمعنا او لتغيير وضع الأشخاص الذين يعيشون تجارب جنسيّة وجندريّة مختلفة.

"منروح منفضح الاحتلال"

إلى جانب مسيرة الفخر الكبيرة والرسميّة، عادةً ما يرافقها ما تسمّى ب"المسيرة البديلة" أو فعاليات بديلة، حيث تكون كجزء من المسيرة الكبيرة وفي المسار ذاته، أو كما كان متبع في سنين سابقة تأخذ مسارًا مختلفًا على شكل "مسيرة مضادّة".

ينظّم المسيرة "البديلة" ويقوم عليها مجموعة من الاسرائيليّين "اليساريين" أو "المناهضين للاحتلال"، ويرفعون فيها شعارات أو هتافات تتعلّق بالغسيل الوردي والاحتلال (والحديث يكون في الغالب عن الأراضي المحتلة عام 1967 وليس عن احتلال عام 1948)، مع تأطير جنسي وجندري "أكثر راديكاليّة" خاصّة المتعلّق بقضايا المتحولين/ات والهويّة الجندريّة.


من مسيرة الفخر في ساو باولو البرازيل يوم أمس: "قوس قزح لن يغطي جرائم إسرائيل. قاطعوا أسبوع الفخر في تل أبيب."

بالنسبة لبعض الفلسطينيين فهذه فرصة لإعلاء هذا الصّوت وإظهاره أكثر، والحديث عن الاحتلال، مغفلين أنّ هذه المسيرة هي المنفس الذي تسمح به دولة الاحتلال لتظهر بالوجه التعددي والديمقراطي، باحتواء أي صوت معارض لها وتجييره لصالحها. وما أدلّ على ذلك من القمع العنيف للمسيرات الفلسطينيّة الأخرى التي لا يرضى عنها الاحتلال، كمسيرات حيفا الأخيرة مثلًا، ما يثبت أن توفير الأمن والطرق لمسيرة كالمسيرة البديلة يخدم الاحتلال ولا يهدده.

رفضنا لمسيرة الفخر، وكل ما يتعلّق بمؤسسات الاحتلال، هو رفض لوجودها بأكمله، وليس محاولة لإصلاحه أو جعله أكثر ليبراليّة، وهي المهمّة التي يمكن أن تكون شأن اسرائيلي داخلي، دون علاقتنا كفلسطينيّين فيها حيث نقع على النقيض من هذا الكيان ومؤسساته. رفضنا لمسيرة الفخر هو رفض لإعطاء الشرعيّة لتمدد الاحتلال وممارسة نفوذه و"حريّته" على مدننا وقرانا المهجّرة، وأي محاولة لجعله اكثر احتواءً وتقبّلًا لا يخدم سوى مواطنيه الاسرائيليّين وليس الفلسطينيّين باختلاف هويّاتهم الجنسيّة والجندريّة.

الفخر بمقاطعة الاحتلال

ليست الدعوة لمقاطعة فعاليات أسبوع الفخر الحالية في مدينة تل أبيب، وغيرها من الأحداث المرتبطة بالاحتلال الاسرائيلي، اتهام أو هجوم لأحد كان، بل هي دعوة للتفكير بشكل أعمق في تبعيّات وآثار المشاركة. ندرك تمامًا أن الواقع ليس سهلًا، ونرى العنف المجتعي المتفشّي تجاه أشخاص يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة، إلّا أنّنا في الوقت ذاته نرى عنف الاحتلال وبطشه بأبناء شعبنا، ونرى بضرورة الانفصال عن المؤسسة الاسرائيليّة، والانخراط أكثر في سيرورات ومنظّمات تهدف لتعزيز حضور قضايا التعدديّة الجنسيّة والجندريّة بشكل أكبر في المجتمع الفلسطيني، منطلقين من الأمل في التغيير والتحوّل إلى واقع أفضل دائمًا.

photo