مقالات // كل المقالات // المحطات الرئيسية في تجربة القوس داخل الحراك المثلي الفلسطيني

المحطات الرئيسية في تجربة القوس داخل الحراك المثلي الفلسطيني

كيف ممكن ان نلخص “النشاط المثلي والكويري الفلسطيني على مدى السنوات العشر الأخيرة من وجهة نظر داخليّة لناشطين وناشطات عملن على موضوع المثليّة الجنسية في المجتمع الفلسطيني” (عنوان الجلسة الاولى في مؤتمر اصوات) في عشرة دقائق وفي اطار مؤتمر احتفالي وفي ذكرى اليوم العالمي لمناهضة الهوموفوبيا – ذكرى التي سبق وان كتبت عن خطورة تبنيها كمركز خطابنا وعن محدوديات “الهوموفوبيا” كاطار نضالنا الكويري المثلي المحلي. ولكن من تجربتي في خلال العقد الاخير يمكننا ان نرى ان هذه التضاربات هي لب مسيرة النشاط المثلي الفلسطيني وساحاول في وقتي القصير المرور بنا على بعض المحطات الرئيسية التي تجسد برأيي التغييرات التي مرت بها القوس لتكن مجموعة لها قاعدة شعبية واسعة وبالأساس لتكن مجموعة ذات صلة مع واقعنا وسياقنا المحلي الفلسطيني والتي تلعب في السنوات الاخيرة دورا سياسيا ذي تأثير على المجتمع المثلي والمحلي وحتى العالمي. تأثير الذي على غير السنين الاولى يمكننا قياسه ولمسه في صور مختلفة من التغيير.

ولكن قبل ان ننتقل الى عرض هذه المحطات الرئيسية بودي ان اشارككم بثلاث معايير مهمة التي استعملتها قيادة القوس في السنوات العشر الاخير كبوصلة لعملنا, لنجاحاتنا والاهم للتعامل مع التحديات اللانهائية التي نواجهها من خلال عملنا. المعيار الاول هو ان النجاح يتم قياسه في النهاية على اساس قدرتنا كحركات مثلية وكويرية على تغيير الخطاب الاجتماعي والسياسي الجنساني. الهدف ليس فقط تغيير الخطاب وإنما قدرتنا على تنميته وتطويره بشكل مستمر لضمان تواصلنا الدائم مع واقعنا وسياقنا العام. لا نقصد بالخطاب فقط الخطاب “الخارجي” وإنما ايضا خطابنا “الداخلي.” فجوة بين الاثنين تدل بالضرورة على الحاجة لإعادة التفكير بأهدافنا وممارستنا. المعيار الثاني هو الممارسة. نؤمن بالقوس انه لا توجد أي حاجة او نفع من خطاب راديكالي (او ليبرالي) مؤثر ايا كان اذا كانت الممارسة بعيدة عن ما يمثله خطابنا. خطاب وقيم واستراتجيات القوس والتي ما زلنا مستمرون ببحث نجاعتها (وتغييرها عند الحاجة) مستوحاة من دراسة وتحليل مستمر لتجربتنا في الحقل وممارساتنا اليومية ومقارنتها مع ما ندعو ونسعى اليه. وجود فجوات بين الممارسة والخطاب كانت دائما علامة اضافية لزيارة مجددة لعملنا. احد الدروس المستفادة كانت ضرورة توفير حيز ثابت داخل المجموعة والذي يصنف ويعتبر النقاش الداخلي المستمر والمبني كاستراتيجية مهمة للعمل والتطور لا تقل اهمية عن استراتيجيات عملية اخرى. المعيار الثالث له صلة بفهمنا وتذويتنا كون القدرة على التغيير والتحول المجتمعي تبدأ من القدرة والقابلية للتغير الداخلي. المرونة في هذا الجانب ضرورية لاحتواء التغييرات الحتمية التي سنواجهها, شئنا او ابينا, كحركات مثلية (او أي حركات) عند تواصلنا مع افراد المجتمع المثلي والمجتمع العام. الوهم انه بامكاننا اغلاق شهر او سنة او عقد من النشاط بدون ان نضطر للمخاطرة والتغير هو عقبة خطيرة في سيرورتنا. المرونة في هذا المجال تضمن ان نبقى مؤثرين وتضمن قراءة صحيحة للفرص والتحديات الخارجية ونقاط القوة والضعف داخل مجموعاتنا.
المحطات المركزية التي سأذكرها هنا تتمحور بالاساس حول مسيرة التحول في خطاب القوس الداخلي والخارجي, الفردي والمجموعاتي والاجتماعي والسياسي كجانب، عادة ما يهمش على حساب عرض الانجازات العملية التي لن اعرضها هنا. عند التفكير بسيرورة تطور خطاب القوس في العقد الاخير بامكاننا عرضها على انها قصة لها جانبين رئيسيين.

الجانب الاول متعلق بالتغير والتحول الدائم في تعريف القوس الذاتي. مصدر تعريفنا لذاتنا هو حقل عملنا وتحديد استراتجياتنا نابع من ترجمة هذه التجربة وتحليلها. خلال العشر سنوات الاخيرة رأينا كيف بدأ القوس كمجموعة مقدسية تعمل كقسم من مؤسسة اسرائيلية غير مسيسة في اواخر ال 2001 لتتحول الى الجمعية الرسمية الاولى للمجتمع المثلي الفلسطيني التي سجلت في عام 2007 وحتى تعريفنا الجديد باننا بالاساس مجموعة ناشطين وناشطات تعمل على تغيير واقعها وتسعى لتحويل وتكسير الهرمية الجنسية والجندرية السائدة في المجتمع كالهدف الاساسي. القوس رأت اهمية كبيرة بتعريف دورها كمجموعة لديها طموحات كبيرة ودور سياسي ولكنها اختارت ان يكون “تمثيل المثليين الفلسطينيين” ليس احدهم. بالإضافة رأت القوس حاجة لتنظيم وتأسيس عملها في اطار جمعية ولكن امنت دائما ان مساهمتها الاساسية هي في بناء وتعزيز الحركة الجنسانية الفلسطينية الاوسع, الترويج لخطاب جنساني جديد وليس الترويج للمؤسسة. لعل اهم تغيير قادته القوس هو تحدي الصور النمطية “للمثلي” الفلسطيني, منتوج عقود طويلة من الطابو على الجنسانية وعمليات استغلاله في احيان كثيرة لأغراض سياسية تخدم المصالح الاستعمارية لدولة اسرائيل. التحول المركزي كان من صورة الضحية – ضحية المجتمع, العائلة والمؤسسة الى صور جديدة لفرد وناشط له وكالة وتأثير على ذاته وأقرانه ومجتمعه. النقطة الاخيرة والتي كان بإمكانها ان تأخذ شكلها النهائي فقط بعد دراسة وتحليل كل النقاط اعلاه وهي متعلقة بقدرتنا على تحديد “متطلباتنا” من المجتمع. وبالضبط هذه هي القضية – ليست لدينا “متطلبات” من المجتمع ولا نضع انفسنا مقابل او خارج المجتمع حيث قامت قيادة القوس على مر السنين بإلغاء مصطلحات عديدة من قاموسها مثل “التقبل” و “المساواة” واستبدلتها بكلمات اخرى تحوي بشكل اكبر رؤيتنا بأننا جزء لا يتجزأ من المجتمع وتعبر عن طموحاتنا بتحول مجتمعي اوسع الذي يضمن عدالة وكرامة لكل فرد ومجموعة.

الجانب الثاني من المسار يلقي الضوء على الخطوات التي قادتها القوس للخروج من القوقعة المثلية. هذه الخطوة لتوسيع خطابنا وعملنا وفرت لنا قراءة جديدة للواقع وفرصة لتحديد اهدافنا ونضالنا بمصطلحات جديدة. لطالما تقع مجموعات مثلية (وعربية أيضا) بفخ الترويج للقهر والنضال المثلي على انه “خاص” و “مميز” وتنسى ان نضالنا في الاساس هو مناهضة المؤسسات الابوية وأنظمة الضبط الجنسي وتحدي المعايير الجندرية والجنسية التي طالما ما صورت كحقائق مثل الغيرية البحتة. هذا الاطار الجديد لنضالنا أثر بالأساس على كيفية تصورنا لعلاقة القوس مع الخارج وتحديد استراتيجيات عملنا للتغيير والتحول الاجتماعي. بشكل اساسي قيادة القوس ركزت على ثلاث اشياء رئيسية:

الاول اعادة صياغة علاقتنا مع المجتمع العام. القوس ترفض التقسيم الغير عضوي “للداخل” و “الخارج” الذي ايضا نراه في هذا المؤتمر في صورة تقسيم جلستي المؤتمر لجلسة اولى يتحدث بها “المثليون” وجلسة ثانية تستضيف “اصدقاء” المثليين. اذا اردنا تعزيز موقعنا وشرعيتنا في هذا المجتمع مهم ان نبدأ بتفكيك القطبية بين الخارج والداخل والتوقف عن وضع انفسنا مقابل المجتمع. باعتقادي هدفنا ليس بناء جسور بين المجتمع المثلي والمجتمع الخارجي وانما ان نسبح في نفس النهر لنغير مجراه مع بعض – اذا عجزنا عن الترويج لنضالنا على انه نضال مجتمعي اوسع وليس مثلي فقط فسنفشل ان نؤثر بشكل مستديم.

النقطة الثانية كانت التركيز على خصوصية التجربة والسياق المحلي وفهم تركيبة الجنسانية والمواقف حولها في المجتمع الفلسطيني والحذر من استيراد استراتيجيات لا تمت بصلة في كثير من الاحيان لواقعنا. ان تبني المفاهيم الغربية رهاب المثلية, الخروج من الخزانة, الظهور والفخر تطرح في كنفها قطبية التي تعزز مفاهيم اخرى مثل العار والخباء والخوف وتحدد اهدافك (مناهضة رهاب المثلية) والهدف الاخير لسيرورتك (الخروج من الخزانة) واستراتجياتك (الظهور والفخر). لم يكن تحليلنا هذا ليقتصر على محدودية تبني هذه المفاهيم في عملنا وإنما وسعت الى نقد يسلط الضوء على رؤية هذه المفاهيم والهيمنة المثلية الغربية كصور جديدة للاستعمار الثقافي. ( لقراءة إضافية: من قلب تجارب النشاط المثلي العربي – فرص وتحديات)
النقطة الاخيرة هي عملنا ودورنا السياسي. قيادة القوس وأعضاءها (وبالرغم من النقاش الداخلي المستمر والمهم حول الكيف والكم) ترى انه لا يمكن فصل نضالنا عن العمل السياسي ضد الاحتلال والاستعمار. الحركة المثلية والكويرية الفلسطينية شاءت ام ابت هي قسم من القضية السياسية وحتى لو انها لم تشترك بشكل فعلي بمناهضة صور الاستعمار والاحتلال – التي لا تفرق بين مثلي وغير مثلي – اصبحت قضيتها واسمها رهينة لالعاب سياسية. اكبر مثال على ذلك هو استعمال حقوق المثليين وتشويه صورة المثليين الفلسطينيين على يد حكومة اسرائيل لغسل جرائمها بحق الشعب الفلسطيني.

لقد حاولت اعلاه عرض بعض المحطات الرئيسية في سيرورة القوس في العقد الاخير من خلال القاء الضوء على التحول في الخطاب, اطار النضال واستراتيجيات العمل. من هذه النقطة المفصلية علينا ايضا ادراك بعض التحديات المهمة والطارئة التي يجب علينا كحركات مثلية الانتباه اليها والتي حاولت القوس الرد عليها بعد دراسة عميقة في ومبادرات مختلفة في خطتها الاستراتيجية الجديدة.
التحدي الاول يتمحور حول مكانة الفرد من هذه السيرورة ودوره. بعد التركيز على بناء قيادة واسعة وتعزيز النشاط الاجتماعي والسياسي في داخل القوس والدخول في مسؤولية (او ميمعة) التغيير الاجتماعي في السنوات الخمس الاخيرة يجب الرجوع عدة خطوات والتساؤل حول كيفية ربط هذه المفاهيم وتصورنا للنضال مع حاجيات المجتمع المثلي الفردية, النفسية والاجتماعية. القوس تصب جهدا كبيرا في الاشهر الاخيرة لبناء اطر ملائمة وجديدة تضع الفرد في المركز والتي تطمح في تكملة مسيرة بناء مجتمع مثلي وكويري فلسطيني فعال.

التحدي الثاني يخص خطاب “المتقبلين للمثلية.” هنالك من يرفض الاعتراف بوجود صور وهويات وسلوكيات جنسية وجندرية مختلفة عما هو سائد ومعياري وهذه هي حقيقة. وهنالك هؤلاء الذين يعترفوا بوجود افراد لا تنطبق عليهم هذه المعايير – ولكن المفاجأة عند العمل مع هذا الشق من المجتمع هي التزايدد المقلق في خطاب ليبرالي جديد قديم. هذا الخطاب يحاول اما ان يصور القضية على انها قضية متعلقة بالجنس فقط “فش عندي مشكلة مع المثليين ما دام بيعملو سكس بالبيت” او انه يجرد القضية من الجنس اصلا “ليش لازم تحكوا عن الجنس كل ما بتحكوا عن المثلية” – طرفي هذا الخطاب يؤكدان ان وسواس الجنس ليس عند المثليين وانما عند هؤلاء الاشخاص. فتعالوا اول شي نتفق انه الجنس شي بخوفش ولا بقرف. عنجد. للاسف هنالك جانب اخر للخطاب الليبرالي الذي ينتقد التنظيم المثلي ووجود مجموعات مثلية “ليش لازم اصلا يكون في مجموعات للمثليين؟” ويصور – مع اتهام مباشر او غير مباشر – محاولات تجمعنا على انها محاولات تجزء النضال وتضعفه. ونحن نسأل عن اي نضال نتحدث؟ تكمن خطورة هذه الخطابات بمحاولة تقليص اهمية النضال المثلي والكويري وإلغاء خطابنا ووجودنا في المجتمع بشكل جديد وبحجة الليبرالية والتقبل. القوس تلتزم في خططها المستقبلية بالعمل المباشر مع مجموعات شبابية سياسية واجتماعية وتوفير حيز مباشر ومسؤول للخوض في هذه النقاشات المهمة في محاولة لخلق مشترك لخطاب جديد.

التحدي الاخير يتلخص بتوجهنا للمجتمع العام والسؤال الاساسي: هل نريد ان نغير المجتمع او ان ندع المجتمع يغيرنا؟ هل باستطاعتنا الوقوف امام الاغراء ان كل ما تشبهنا بالغيرية, وتقوقعنا في مبنى ومؤسسة العائلة, واستهلكنا الاعراف والانماط الجنسية المتعارف عليها, كلما ما تقبلونا اكثر. القوس وضعت امام عينيها هدف زعزعة مباني القوة وتكسير قوالب المجتمع ولن يتم ذلك الا اذا استطعنا عرض خطاب شامل يلقي الضوء على كيف ان الجنسانية والجنس ورغبات كل فرد تضبطها مؤسسات الذكورية والابوية وكيف ان الغيرية البحتة تحدد اختياراتنا وتفرض ما هو مقبول وغير مقبول. النضال الجنساني لا يجب ان يتقلص الى حقوق, حميمية, صحة, حب وحرية جنسية وانما بالأساس يجب ان يتمحور حول مقاومة وتفكيك هذه المؤسسات ونقدها بشكل دائم والعمل على زيادة الوعي للصور والسلوكيات التي بها تتجسد هذه المباني في حياتنا اليومية.

ترى القوس أن التحديد الغربي الذي جرى خلال المائة عام الأخيرة لوجود “غيرية حصرية” وبالتالي مثلية كانعكاس غير طبيعي للغيرية لهو سعي برجوازي ناجح لفرض تقسيم بنيوي بين الغيري (الطبيعي) والمثلي (الشاذ) وبالتالي السيطرة على المثلي من خلال تقبله ولكن بشروط” الفصل” بمعنى نحن هنا وأنتم هناك. ويذكر هذا بخطاب اليسار الصهيوني الذي أصلا أنشأ مبدأ الفصل. نحن في القوس نتحدى هذا الخطاب ونسعى لأن نكون جزءا عضويا من الحراك الكويري العالمي ضد الهيمنة على أشكالها الاجتماعية والسياسية وأيضا من خلال تفكيك الغيتو المثلي الذي يشكل “رد فعل” على الهيمنة الرأسمالية الغيرية أكثر مما يشكل هوية مبلورة مؤثرة واصيلة، نحن في القوس نتبنى الخطاب الذي يضع “الكويري” في المركز وليس كحالة انفعالية او استباقية، ولكن كفرد يعيد صياغة العلاقات الاجتماعية والسياسية من وجهة نظره، وجهة نظر “المضطهدين سابقا” .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال نشر لأول مره في موقع قديتا

photo
النجاح يتم قياسه في النهاية على اساس قدرتنا كحركات مثلية وكويرية على تغيير الخطاب الاجتماعي والسياسي الجنساني