المقالات // كتاباتنا // إسرائيل وحملات "الغسيل": الاستعمار بلونه الوردي

إسرائيل وحملات "الغسيل": الاستعمار بلونه الوردي

في تناول هذه الحَملة ما يتجاوز مسألة "المثليّة" كحالةٍ أو قضيّةٍ، أو حتى مسألة "الحقوق"، الّتي تتّخذها إسرائيل ورقة تظنّها رابحةً في معركتها التّرويجيّة للتستّر على عنصريّتها، ولتبدو الحريصَ على "حقوق" زائفة ضمن مشروعها "التّجميليّ"، الّذي يكشف مواضع القُبحِ أكثر. للحملة جانبٌ آخر، هو ما يدفعنا لتناولها من خلاله انطلاقًا من إدراكنا لأهميته، وهو الجانب السّياسيّ المموَّه، فالنقاش إذن لا يدور حول مسألة حقوقيّة بريئة، بل عن حملة ترويجيّة تشويهيّة للواقع الإستعماري، تصوّرُ إسرائيلَ فردوسًا للمثليّين في الشّرق الأوسط، لتظهر على أنّها الدّولة الوحيدة التي تحمي، تحترم وتحتفي بالمثليّين وحقوقهم، وتُتيح مساحة ورديّة للحياة المثليّة والمثليين، فتُظهِر الفلسطينيين، العرب والمسلمين بالمقابل، كشعوب تقمع "مثليّيها" الّذين يلجأون إلى "تل أبيب" هربًا من تخلّف وظلم بيئتهم ومجتمعهم! "الغسيل الوردي" هو استراتيجية لإخفاء صورة إسرائيل كدولة محتلّة وقوة استعمارية، والتستّر على سجلّها في انتهاك حقوق الشّعب الفلسطينيّ، وتبييض وجهها من خلال "ورقة" حقوق المثليّين والحياة المثليّة "الكريمة."

انبثقت هذه الحملة المتعمدة والمعروفة اليوم بين الأوساط المناهضة لها بـ "الغسيل الورديّ" Pinkwashing- - عن الحملة المسماة "براند اسرائيل" والتي أُطلقت عام 2005 بتمويل وتنظيم الحكومة الإسرائيليّة ووزارة خارجيّتها على وجه الخصوص، وبالشّراكة مع شركات دعاية أمريكيّة ومؤسّسات يهوديّة صهيونيّة في شمال أمريكا، آسيا وأوروبا، كما منظمات مثلية محلية إسرائيلية. تهدف الحملة إلى إظهار إسرائيل كدولة عصريّة "relevant and modern"، فلا تظهر إسرائيل كقوّة استعماريّة، وإنما كدولة حريات وأمان ومتعة "Fun, Free and Fabulous" للفئات الشبابية وللمثليين على وجه الخصوص، وقد نجحت إسرائيل من خلال هذه الحملة وبشكل لا يستهان به في تقديم نفسها للعالم كفردوس المثليّين والى تحويل تل أبيب (بواسطة حملة تكلفتها 90 مليون دولار اشتركت فيها عام 2010 وزارة السياحة الإسرائيلية وبلدية تل أبيب) إلى "موقع عالمي للسياحة المثليّة" استقطب وفقا للإحصائيات أكثر من 8000 سائح مثلي خلال شهر حزيران العام 2014، العدد الذي من المتوقع أن يزداد خلال حزيران الجاري نظرًا لتحويله إلى "شهر الفخر" الذي تُعقد فيه مسيرة وحفلات "الفخر" الشهيرة والتي تم الترويج لها بنجاح نسبي بين أوساط المثليين في أرجاء العالم..

أما الإستراتيجيّة الّتي تنتهجها الحملة الإسرائيلية إلى جانب تشجيع السياحة المثلية، من خلال فعاليات الفخر، فهي تتلخّص بالسّينما المثليّة الّتي تتضمّن عرض أفلام مثليّة إسرائيليّة، يتمّ دعمها من قِبَل قنصليّات إسرائيليّة لتُعرَض في مهرجانات عالميّة؛ إرسال وفود إلى مهرجانات عالميّة يتمّ التّرويج من خلالها لإسرائيل ولتل أبيب على وجه الخصوص كجنّة المثليّين؛ محاضرات في العالم تتمحور حول حقوق المثليّين في إسرائيل، تقدّمها منظّمات مثليّة إسرائيليّة بتمويل من قِبَل وزارة الخارجيّة ،بالإضافة إلى التّرويج لجيش الإحتلال على أنّه الجيش الوحيد الذي يسمح للمثليّين بالإنخراط في الخدمة!

وتشهد الحملة اهتمامًا خاصاً من ممثّلي الحكومة وعلى أعلى الأصعدة، حيث برز ذلك في خطاب بيبي نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي في أيار 2011 حول وضع الشرق الأوسط وخاصيّة إسرائيل، معتبرًا أنّ "الشّرق الأوسط كان منطقةً لرجم النّساء، شنق المثليّين واضطهاد المسيحيّين". إشارة في ذلك إلى دور إسرائيل المناهض لكل هذه الظواهر، ضمن غسيلها الورديّ!

رواية الغسيل الوردي

لا يتمركز الغسيل الورديّ حول المسألة المثليّة كحقّ تضمنه إسرائيل للأفراد عن طريق ديمقراطيّتها وانفتاحها، بل يتجاوز ذلك ليأخذ منطقًا استعماريًّا عنصريًّا ينزعُ عن الهويّات الأصلانيّة (الشّعب الفلسطيني) إنسانيته من خلال تصويره مجتمعًا رجعيًّا متخلّفًا، يقمع أفراده جنسيًّا وجندريًّا، تلعب إسرائيل فيه دور المنقِذ الّذي يذوب فيه المحتلّ فيصيرُ ملاذًا لمُنتَهَكي الحقوق من الفلسطينيّين، هي استراتيجيّة لشرعنة منظومة الإستعمار الصّهيونيّ، ولو اتّخذ الأمرُ عناوينَ حقوقيّة تموّه الحقائق والواقع. لا يناقش الغسيلُ الورديّ قوّة إسرائيل الإستعماريّة القامعة وتأثير ذلك على القمع الداخلي في المجتمع المُحتَلّ من قِبَل إسرائيل، بل يكرّسُ فكرة التحرّر الإسرائيليّ والتخلّف الفلسطينيّ، حيث يحصر الهوموفوبيا (الاضطهاد والقمع الجندري والجنسي) كمرض متجذّر في المجتمع العربي الفلسطينيّ، تكون إسرائيل علاجه عبر مساحة من الحريّة الزّائفة المدّعاة الّتي تمنحها للأفراد الفلسطينيّين وغيرهم.

وبهذا فإن الغسيل الوردي لا يتعاطى مع الواقع الإسرائيلي\الفلسطيني كديناميكية مُستعمِر ومُستَعمَر وإنما كتفريق بين المنفتح والعصري من جهة والمتخلف والقامع جندريًا وجنسيًا من الجهة الأخرى. في هذه الحالة تستبدل ديناميكية مُستعمِر ومُستَعمَر، ثنائية المتنور -متخلف، متقبل -هوموفوب، وتصبح حسب الرواية الصهيونية الحقيقة.

لا تُعتَبَر حملة الغسيل الوردي تكريسًا لعمليّة العزل بمفهومها السّياسيّ فقط، بل تعتمد التوجّه الحقوقيّ المثليّ الّذي يعزل الميول الجنسيّة والهُويّة المثلية عن باقي الهويّات، ويتغاضى عن التمييز والقمع البُنيويّ الذي يخلق هرمية بين أجساد معينة (يهودية إسرائيلية) لها قيمة، وأخرى ليست لها قيمة (عربيّة فلسطينية). في تبني الحملة لهذا التوجه، فهي تخلق لغة مشتركة مع مجموعات وجماعات التي تبنت هذه المفاهيم، والتي تضع ميولها الجنسية في قمة هرم القمع بمعزل عن العِرق، النوع الإجتماعي، الطبقة، الخ.

تأثير الحملة على المثليين الفلسطينيين

على الصّعيد المحلّي، تعزّز حملة الغسيل الورديّ كره المجتمع والعائلة من خلال التّرويج للمثليّين الفلسطينيّين بأنّهم ضحايا عائلاتهم ومجتمعهم، وبأنّه لا يمكن استيعابهم ضمن أيّ مكان أو جهة فلسطينيّة داخل مجتمعهم ممّا يعزّز كراهية المثلي الفلسطيني تجاه بيئته، الأمر الّذي يسلخ بعض الأفراد عن انتمائهم عبر فرارهم من "الجحيم الفلسطينيّ" إلى "النّعيم الإسرائيليّ"، ممّا يذوّت لدى البعض فكرة أنّ الإحتلال أفضل من القمع المجتمعيّ، حيث يجد المستعمَر بالمُستعمِرِ ضرورة لا بدّ منها لتحقيق طموحاته وذاته "المثليّة".

إلا أنّ هذا الأمر لا ينحصر في أوساط المثليّين الفلسطينيّين فحسب، بل يتجاوز ذلك ليترك أثرًا كبيرًا لدى المجتمع الفلسطينيّ الّذي سيتعامل مع المثليّة كضرر يهدّده بعيدًا عن مسألة الميول الفرديّة، ومنظومة "العيب" و "الحرام" ليرتبط الأخلاقيّ بالسّياسيّ، فترتبط المثليّة بإسرائيل والغرب بمفهومهما الإستعماريّ، الأمر الّذي يعزّز الهوموفوبيا في المجتمع العربيّ الفلسطيني، ما يخلق علاقة جدليّة بين الهوموفوبيا والاستعمار،في العلاقة بين الضّحيّة وجلّادها المنقذ، حيث تتكرّر رواية المثلي الفلسطيني الذي يستطيع الوصول إلى إسرائيل وإنقاذه على يد "مثلي إسرائيلي"، حيث يضيع القسم الفلسطيني في هذه الرّواية ويختفي (قضيّة التحرّك، التنقل، العبور إلى إسرائيل وما يحيط ذلك من تضييقات خانقة)، ولا يظهر إلا صورة إسرائيل الجيّدة (خصوصًا في الإعلام الغربي) من نظام استعماريّ يعمل على تهجير الفلسطينيين إلى دولة تحتضن المثليين (الفلسطينيين) وتُتيح لهم حُريّة سُرعان ما تفتك بهم في شوارع تل أبيب المعتمة.

تجدر الإشارة إلى أنّ الحملة تُقابَل في السنوات الأخيرة بنشاط مناهض لها من قبل نشطاء وحركات مثلية عالمية وفلسطينية تربط السياسات الجنسية مع الواقع الإستعماري في فلسطين، تسعى إلى فضح الحملة من منطلق الوعي بمدى خطورة أبعادها الّتي ترمي إلى تجميل الوجه الإستعماري. إحدى الجهود المركزية كانت لجمعية القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني، التي قادت الكثير من الحملات والمحاضرات العالمية لفضح هذه السياسات ووضعها في السياق الإستعماري في فلسطين.
----------------

*ناشط في جمعية القوس

نشر المقال في صحيفة فصل المقال

photo
تُصوّر إسرائيل نفسها فردوسًا للمثليّين في الشّرق الأوسط، لتظهر على أنّها الدّولة الوحيدة التي تحميهم، وتُظهر العرب والمسلمين بالمقابل، كشعوب تقمع "مثليّيها" الّذين يلجأون إلى "تل أبيب" هربًا من مجتمعهم
لا تُعتَبَر حملة الغسيل الوردي تكريسًا لعمليّة العزل بمفهومها السّياسيّ فقط، بل تعتمد التوجّه الحقوقيّ المثليّ الّذي يعزل الميول الجنسيّة والهُويّة المثلية عن باقي الهويّات، ويتغاضى عن التمييز والقمع البُنيويّ الذي يخلق هرمية بين أجساد معينة (يهودية إسرائيلية) لها قيمة، وأخرى ليست لها قيمة (عربيّة فلسطينية)
على الصّعيد المحلّي، تعزّز حملة الغسيل الورديّ كره المجتمع والعائلة من خلال التّرويج للمثليّين الفلسطينيّين بأنّهم ضحايا عائلاتهم ومجتمعهم، وبأنّه لا يمكن استيعابهم ضمن أيّ مكان أو جهة فلسطينيّة داخل مجتمعهم